مفهوم العلم وفضله وأهميته

مفهوم علم المواريث:

لهذا الفن مصطلحات متعددة وهي: (المواريث، والتركات، والفرائض)، وقد وردت جذورها اللغوية جميعُها في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ...} [النمل: 16]، وقوله عزَّ من قائل: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7]، وكلُّها تهتَمُّ ببيان ما يؤول إليه مال المُتوفَّى، ولمن يوزع، وطريقة توزيعه.

أولاً: لغةً:

آ ـــ المواريث: يقالُ: (وَرِث) أباه مالاً (يرِث وِراثةً) وهو (وارثٌ)، والأبُ والمال كلاهما (موروث)، و(ورَّثه) أشركه في المال، و(أورثَه) مالاً: تركه ميراثاً له، و(الإرْث) و(التُراث): الميراث. والهمزة والتاء بدل من الواو(1). قال الفَيُّومي: ( ورث مال أبيه، ثم قيل: (وَرِثَ) أباه مالاً (يَرِثه) (وِراثةً) أيضاً، و(التُّراثُ) بالضم، و(الإِرثُ) كذلك، والتاء والهمزة بدلٌ من الواو، فإنْ ورث البعض قيل: (وَرِثَ) منه، والفاعل (وَارِثٌ) والجمع (وُرَّاثٌ) و(ورَثة) مثل: كافر وكفار وكَفَرَة، والمال (مَورُوثٌ)، والأب (مَورُوثٌ) أيضاً. و(أَورثَهُ) أبوه مالاً جعله له (مِيراثاً)، و(وَرَّثْتُهُ تَورِيثاً) أشركته في الميراث. قال الفارابي: (وَرَّثَهُ) أدخله في ماله على (وَرثَتهِ)(2). وقال أبو زيد: (وَرَّثَ) الرجل فلاناً مالاً (تَوْرِيثاً) إذا أدخل على ورثته من ليس منهم فجعل له نصيباً)(3).

ب ـــ الفرائض: وأما معنى (فرض) فقال الفيومي: (الفَريضَةُ فعيلة بمعنى مفعولة، والجمع فَراِئضُ. قيل: اشتقاقها من الفَرْضِ الذي هو التقدير؛ لأن الفَرَائِضَ مقدرات. وقد اشتهر على ألسنة الناس: «تَعَلَّمُوا الفَرائِضَ وعَلِّموُهَا النَّاسَ؛ فَإنَّها نِصفُ العلمِ»(4) بتأنيث الضمير وإعادته إلى الفرائض؛ لأنها جمع مؤنث، ونقل: وعلموه؛ فإنه نصف العلم، بالتذكير بإعادته على محذوف تنبيهاً على حذفه، والتقدير: تعلموا علم الفَرَائِضِ. قيل: سماه نصف العلم باعتبار قسمة الأحكام إلى متعلق بالحيّ، وإلى متعلق بالميت. وقيل: توسعاً، والمراد الحثّ عليه كما في قوله: «الحجُّ عَرَفةُ»(5).

وفَرَضَ الله الأحكام فرْضاً أوجبَها، فالفرضُ المفروضُ جمعه فُروض، مثل فَلْسٍ وفُلوس)(6).

وقال ابن حجر: (الفرائض جمع فريضة كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة، مأخوذة من الفرض وهو القطع، يقال: فرضت لفلان كذا، أي: قطعت له شيئاً من المال. قاله الخطابي.

وقيل: هو من فَرضِ القوس، وهو الحز الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول.

وقال الراغب: الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى: {... نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7] أي: مقدراً أو معلوماً أو مقطوعاً عن غيرهم)(7).

وسُمي هذا العلم علمَ الفرائض مع أنه يشتمل على التعصيب وغيره، تغليباً للفرض لتقديره، أو لأنهم كانوا يقولون في الزمن الأول: القول في فريضة كذا، فسمي علم الفرائض فيما بعد(8).

ج ـــ التركات: وأما معنى (تَرَكَ) الميت مالاً خلّفه والاسم (التَّرِكَةُ) ويخفف بكسر الأول وسكون الراء مثل كَلِمة وكِلْمة والجمع (تَرِكَاتٌ)(9).

ثانياً: شرعاً: علم يعرف به الورثة، وما يستحقون من الميراث، وموانعه، والساقط، والمسقط، والحاجب، والمحجوب، وقدر المحجوب، وكيفية قسمته بينهم، وموضعه الميراث(10).

أو هو ما خلفه الميت من الأموال والحقوق التي يستحقها بموته الوارث الشرعي.

أو هو قواعد فقهية وحسابية يعرف بها نصيبُ كل وارث من التركة(11).

وعَرَّفه صاحب الدر بقوله: هو علم بأصول من فقه وحساب، تعرِّف حق كل واحد من الورثة من التركة(12).

وهو علم بأصول فقه وحساب يتوصل بهما لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وهذا أعم من الوارث؛ لأنه يشمل الوصية والدين وغيرهما(13).

فضله:

الفرائض باب من أبواب العلم، وتعلُّمها فرضُ كفايةٍ، وعِلم جليلٌ قدرُه وعظيمٌ أجره؛ إذ هو من العلوم القرآنيَّة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعلمه، لكثرة ما تعم به البلوى، ورغَّب فيه مخافة اندراسه، ونبّه على فضله على جهة الخصوص، وإن كان علم الفرائض داخلاً في عموم أدلة فضل العلم.

ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»(14).

هذا الحديث يحثُّ على تعلم الفرائض؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يلحق الفرائض بأهلها إلا عندما يعلم الفرائض ويعلم أصحابها، وكذلك يعرف كيف يتم توزيع الباقي بعد توزيع الحقوق.

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه أعلمُ أصحابه بالفرائض، وأنه كان المسؤولَ عما أشكل منها، والمكتوبَ إليه من الآفاق فيها لعلمه بها، فقال: «أرحمُ أمتي أبو بكر، وأشدُّها في دين الله عمر، وأصدقُها حياءً عثمان، وأعلمُها بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبل، وأقرؤُها لكتاب الله أبيٌّ، وأعلَمُها بالفرائض زيدُ بنُ ثابتٍ، ولكلِّ أمةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(15).

ومما ورد في فضل تعلم الفرائض، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعُسْفانَ، وكان عمر استعمله على مكة، فقال عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابنَ أَبْزَى، قال: ومَن ابنُ أبزى ؟ قال: رجل من موالينا. قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاضٍ. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين»(16). فهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدون العلم بالفرائض منقبةً تستدعي تقديم صاحبها على غيره.

ومما ورد في الحث على تعلم الفرائض حديثُ ابنِ مسعود رفعه: «تعلموا الفرائضَ وعلِّموها الناسَ؛ فإني امرؤٌ مقبوضٌ، وإن العلم سيُقبضُ حتى يختلفَ الاثنان في الفريضة فلا يجدان مَن يفصِلُ بينهما»(17).

قال الحافظ ابن حجر: (ورواته موثقون إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافاً كثيراً، فقال الترمذي: إنه مضطرب، والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضاً اختلاف. ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة: «تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم وإنه أول ما ينزع من أمتي»(18).

قال ابن الصلاح: لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره: لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت، والفرائض تتعلق بأحكام الموت. وقيل: لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس، والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص)(19).

ويقول الحافظ ابن حجر أيضاً: (وفي الباب: عن أبي بكرة، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق راشد الحِمَّاني، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رفعه «تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما»(20). وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول.

وعن أبي سعيد الخدري بلفظ: «تعلموا الفرائض وعلموها الناس». أخرجه الدارقطني(21) من طريق عطية وهو ضعيف.

وأخرج الدارمي عن عمر موقوفاً: «تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن»(22).

وفي لفظ عنه: «تعلموا الفرائض فإنها من دينكم»(23).

وعن ابن مسعود موقوفاً أيضاً: «من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض»(24).

ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعاً)(25).

ومن فضل علم الفرائض أنه أحد الأسباب الرئيسة لظهور علم الحساب عند العرب والمسلمين، مع الاهتمام به والعناية فيه ثم رعايته في التوسع والتأليف والاختراع(26).

أهميته:

ترجع أهمية هذا العلم لكونه من أهمِّ العلوم بعد معرفة أَركان الدِّين؛ لذلك أفرده بعض العلماء بكتب مستقلة، وكان يدرس بشكل منفرد، حتى صار علماً مستقلاً، ونظراً لحاجة الناس إليه، فهو يَهُمُّ كلَّ إنسان ـــ ولو فقيراً يملك القليل الذي سيورثه لغيره ـــ وخاصة بعد وفاة أحد الأقارب فتتجه الأنظار والنفوس إلى ماله، ويبحث الأهل عن وسيلة لمعرفة الأحكام الشرعية لتوزيع الثروة بعد القيام بحقوقه من تجهيز ووفاء ديون وتنفيذ وصية، ثم يوزع الباقي على الورثة(27). ويزيد علم الفرائض على بقية العلوم أن الله سبحانه تولى بيان أحكامه مفصلة في القرآن الكريم، فذكر الجزئيات وحصة كل شخص في ثلاث آيات من سورة النساء، وأنه يعتمد بغالبيته على النصوص الشرعية المحكمة، فقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التوزيع في حياته بين الورثة، وعلمه الصحابة، لذلك يُعدُّ علم الفرائض وُلِدَ كاملاً من العهد النبوي(28).

وقد حثَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم على تعلِيمها وتعَلُّمها، وقد كان أَكثرُ مذاكرة أَصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم إذا اجتمعوا في علمِ الفرائض. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض، وإذا لهوتم فالهوا بالرمي))(29).

وتظهر أيضاً أهمية علم الفرائض في تنظيمه الأمورَ الماليةَ للإنسان بعد وفاته، وتحديدِه انتقال التركة إلى مستحقيها بنظام محدد، وقواعدَ معينة وجزئيات مفصلة، وأنصبة مقدرة شرعاً بالنصوص بحكمة وعدالة ومنطقية في التوزيع بحسب قوة القرابة وشدة الحاجة(30).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ينظر: المُغرِب في ترتيب المُعرِب: 2/349، (ورث).

(2) ديوان الأدب: 3/272.

(3) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي: 2/654، (ورث).

(4) رواه ابن ماجه محمد بن يزيد القزويني في السنن: كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض، رقم 2719، 2/908، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض، 6/208 ـــ 209، من حديث أبي هريرة، وقال البيهقي: تفرد به حفص بن عمر وليس بالقوي.

(5) رواه الترمذي محمد بن عيسى بن سورة في السنن: كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، رقم 889، 890، 3/237، من حديث عبد الرحمن بن يعمر، وقال الترمذي: والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

(6) المصباح المنير: 2/243، (فرض).

(7) فتح الباري شرح صحيح البخاري: 12/3ـــ5.

(8) مرجع العلوم الإسلامية: د. محمد الزحيلي، ص 725.

(9) ينظر: المصباح المنير: 1/74 ـــ 75، (ترك). ومختار الصحاح: ص 80، (ترك).

(10) ينظر: القاموس الفقهي: أ. سعدي أبو جيب، 1/283.

(11) ينظر: الأحوال الشخصية في الأهلية والوصية والتركات: د. مصطفى السباعي ود.عبد الرحمن الصابوني، ص392.

(12) ينظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار: 5/482.

(13) ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته الشامل للأدلة الشرعية والآراء المذهبية وأهم النظريات الفقهية وتحقيق الأحاديث النبوية وتخريجها: 10/372.

(14) رواه البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة في صحيحه الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه: كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، رقم 6732، 8/150، ورواه مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري في صحيحه: كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، رقم 1615، 3/1233، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(15) رواه الإمام أحمد بن محمد بن حنبل في المسند: رقم 12904، 20/252، ورواه الترمذي في السنن: كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأُبي وأَبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، رقم 3791، 5/665، من حديث أنس، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(16) رواه مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، رقم 817، 1/559.

(17) رواه الترمذي في السنن: كتاب الفرائض، باب ما جاء في تعليم الفرائض، رقم 2091، 4/419، والنسائي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب في السنن الكبرى: كتاب الفرائض، باب الأمر بتعليم الفرائض، رقم 6305، 5/65، ورواه الحاكم محمد بن عبد الله أبو عبد الله النيسابوري في المستدرك: كتاب الفرائض، 4/369. قال ابن حجر: رواته موثوقون إلا أنه مختلف فيه. ينظر: فتح الباري: لابن حجر، 12/5.

(18) رواه ابن ماجه والبيهقي بنحوه، ولم أجده عند الترمذي، ولعله سبق قلم من الحافظ ابن حجر.

(19) فتح الباري: لابن حجر، 12/5.

(20) رواه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد في المعجم الأوسط: رقم 4075، 4/237.

(21) رواه الدارقطني علي بن عمر في السنن: كتاب الفرائض والسير وغير ذلك، رقم 46، 4/82.

(22) رواه الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد في السنن: باب الاقتداء بالعلماء، رقم 221، 1/83.

(23) رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض، 6/209.

(24) رواه البيهقي في السنن الكبرى: 6/209.

(25) فتح الباري: لابن حجر، 12/5.

(26) مرجع العلوم الإسلامية: د. محمد الزحيلي، ص 726.

(27) ينظر: الفرائض والمواريث والوصايا: د. محمد الزحيلي، ص 5. ومرجع العلوم الإسلامية: د. محمد الزحيلي، ص 726.

(28) ينظر: الفرائض والمواريث والوصايا: د. محمد الزحيلي: ص 17.

(29) رواه الحاكم في المستدرك: كتاب الفرائض، 4/333، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(30) ينظر: مرجع العلوم الإسلامية: د. محمد الزحيلي، ص 726.